من يملك القطب الجنوبي؟ الصراع على القارة القطبية الجنوبية

ربما تساءلت يوما عن من يملك القطب الجنوبي؟ وبما أننا في عصر السرعة ولا نصبر على المحتوى الطويل، فسأخبرك بالإجابة المختصرة: لا أحد يملك القطب الجنوبي، ولكن “نظام معاهدة القطب الجنوبي” من يديره ويتحكم به – الدول ذات الوضعية الاستشارية -على وجه التحديد. لكن هذه الإجابة المختصرة تثير الكثير من الأسئلة: لماذا لا تمتلك أي دولة القطب الجنوبي؟ ما هو هذا “نظام معاهدة القطب الجنوبي؟ وما هي “الدول الاستشارية”؟

وللإجابة على هذه التساؤلات، ينبغي علينا سرد تاريخ مختصر للقطب الجنوبي، كيف نشأ نظام معاهدة القطب الجنوبي وتفاصيل أخرى سنتناولها في هذه التدوينة

اكتشاف القارة القطبية الجنوبية

يمكن القول بأن اكتشاف القارة القطبية جاء متأخرا، وذلك لأن الفلاسفة الرومان واليونان كان لديهم تصور لوجود قارة قطبية في الجنوب؛ لأن وجودها باعتقادهم ضروري لاتزان الأرض، تم اكتشاف القطب الجنوبي بين عامي 1819 و1820، أما من له الفضل في  اكتشف القارة القطبية فهو محل جدل، فالأمريكان والبريطانيين والروس جميعهم يزعم أنه من اكتشف القارة

ومنذ اكتشاف القارة القطبية إلى أوائل القرن الحادي والعشرين، لم يكن الاهتمام بالقطب الجنوبي وإرسال البعثات الاسكتشافية على وتيرة واحدة؛ لأن ذلك كان محكوما بالطلب على الفقمات حيث أن صيد الفقمات كان الدافع الأساسي وراء اكتشاف القارة، أي أن اكتشاف القارة كان مدفوعا بالمال وليس لاكتشاف القارة بحد ذاتها

هذا لي! وهذا لي: المطالب الإقليمية للدول في القطب الجنوبي

في أوائل القرن الحادي والعشرين، عاد اهتمام الدول بالقطب الجنوبي وذلك لأمرين: الرغبة في صيد الحيتان والسيطرة على مضيق دريك الذي يفصل بين المحيط الهادي والمحيط الأطلسي والذي له أهمية استراتيجية. وفي العام 1908 أعلنت بريطانيا امتلاكها لأجزاء من القطب الجنوبي -تحديدا شبه القارة القطبية الجنوبية و جزر أوركني وجزر شتلاند الجنوبية- حيث أنشأت إدارة للقطب الجنوبي، وأرسلت رحلات منظمة للقطب ورفعت العلم البريطاني، بل حتى أن بريطانيا فرضت سلطتها على “مناطقها” بفرض رسوم على الصيد لصيادي الحيتان غير البريطانيين الذين يصيدون في مياهها

ثم حذت دول أخرى حذو بريطانيا في إعلان ملكيتها لأجزاء من القطب الجنوبي: فرنسا – نيوزيلندا- أستراليا – النرويج – تشيلي – الأرجنتين- ألمانيا (لكنها لاحقا أجبرت على التخلي عنها)، وبنت الدول مطالبها الإقليمية بناء على أحد من هذه العوامل أو بعضها: قربها الجغرافي (كالأرجنتين وتشيلي)، اكتشاف القارة، التقارب الجيولوجي، التواصل الإقليمي، أفعال الحيازة والامتلاك الرسمية، إدارة المناطق

ما يهم معرفته عن المطالبات الإقليمية: أن هناك تداخلا في المناطق التي تدعي بريطانيا والأرجنتين وتشيلي امتلاكها، أستراليا تطالب بأكبر مساحة من القطب الجنوبي، وهناك جزء لم تطالب به أية دولة (مساحته  1,610,000 كيلو متر مربع)

خلال الفترة بين العام 1908 إلى قبيل الحرب العالمية الثانية كانت الدول المتنافسة على القارة تحرص على: رفع أعلامها في القطب، إرسال بعثات اسكتشافية، إنشاء قواعد غير دائمة، رسم خرائط للقطب الجنوبي، تسمية الأماكن والمعالم في القطب بأسماء خاصة بها، لتقوية مزاعم الدول في تملك أجزاء من القارة

وبعد ذلك احتدم السباق على القطب الجنوبي؛ من حصول أكبر حملة عسكرية في القطب “عملية الوثب العالي” الأمريكية، وحدوث مواجهات مسلحة بين البريطانيين والأرجنتينيين، وتخوف من تمدد الحرب الباردة بوصول سفن الصيد السوفيتية إلى المحيط المتجمد الجنوبي

https://www.tiktok.com/@zainab_hajjar/video/7418164294988156178

مخاض معاهدة القطب الجنوبي

عند الحديث عن تاريخ معاهدة القطب الجنوبي، يجدر الإشارة إلى حدث مفصلي سيحول مسار الأحداث من التصعيد إلى التهدأة وهو “السنة الجيوفيزيائية الدولية”، بالطبع ليس الحدث في حد ذاته السبب في التهدأة، فبريطانيا مثلا لم تكن مستعدة لدفع ثمن حصول مواجهات مسلحة على أراض ليس لها أهمية كبرى، وموت ستالين، كل ذلك بالإضافة إلى جو التعاون خلال فعاليات “السنة الجيوفيزيائية الدولية”، والتي نظمها “المجلس الدولي للاتحادات الدولية” -كما كان يسمى سابقا- في يوليو 1957 وحتى ديسمبر 1958. حينما تعاون باحثون من 67 دولة -بينها دول عربية- على إجراء بحوث علمية في مختلف التخصصات العلمية، وتكلل هذا التعاون باكتشافات علمية مختلفة في: الفضاء، والجيولوجيا وعلم المناخ والتغير المناخي، علم المحيطات، علم الجليد وغيره

لكن هذا الحدث الإيجابي حمل معه إشكاليات جديدة منها: إشكالية إنشاء محطات دائمة للبحث العلمي على مناطق تدعي دول أخرى، دخول لاعبين جدد إلى القطب الجنوبي حيث أن دولا لم يكن لها انخراط سابق في القطب الجنوبي بدأت تنخرط بشكل فعال بالسنة الجيوفيزيائية الدولية، بناء الاتحاد السوفيتي قواعد في القطب (قاعدة ميرني وقاعدة فوستوك)

أضف إلى هذا طرح مسألة القطب الجنوبي في الأمم المتحدة عامي 1956 و1958، حيث اقترحت الهند أن تكون مسألة القارة القطبية الجنوبية على أجندة الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن الهند سحبت مقترحها لاحقا

كل ما سبق ذكره وجه أنظار الدول المهتمة بالقطب الجنوبي إلى ضرورة إنشاء نظام لإدارة القطب الجنوبي قبل أن تتدخل الأمم المتحدة في القطب الجنوبي

ولادة معاهدة القطب الجنوبي

سارعت الولايات المتحدة إلى عقد مؤتمر في واشنطن في أكتوبر 1959 للاتفاق على صيغة “معاهدة القطب الجنوبي”، شارك بالمؤتمر 12 دولة، تحديدا الدول التي لها مطالب إقليمية في القطب الجنوبي ودول أخرى كان لها نشاط فعال خلال السنة الجيوفيزيائية الدولية: تشيلي- الأرجنتين- بريطانيا – فرنسا- النرويج- نيوزلندا- أستراليا- الولايات المتحدة- الاتحاد السوفيتي- اليابان – جنوب افريقيا- بلجيكا، يقول الباحثون بأن المفاوضات ركزت على جعل القارة بعيدة عن سيطرة الأمم المتحدة، وأن تقتصر السيطرة على الدول التي لها قواعد في القطب الجنوبي

واستمرت المفاوضات ستة أسابيع إلى أن ولدت معاهدة القطب الجنوبي في 1 ديسمبر 1959، ودخلت المعاهدة حيز التنفيذ منتصف العام 1961. وبعد ذلك.. وقعت دول أخرى المعاهدة إلى أن وصل مجموع  الدول الموقعة 57 دولة، بينها دول مسلمة ودولة عربية واحدة وهي المملكة العربية السعودية التي وقعت المعاهدة في 22 مايو 2024

تتكون من 14 مادة، أبرز مواد المعاهدة

المادة الأولى: تنص على الاستخدام السلمي للقارة، ومنع أي نشاط له طابع عسكري سواء إنشاء قواعد عسكرية أو إجراء مناورات أو تجارب أسلحة

المادة الثانية: تكفل حرية البحث العلمي في القطب الجنوبي

المادة الرابعة: تعتبر أهم مادة في المعاهدة، وتعني أنها لا تؤكد ولا تنفي المطالبات الإقليمية للدول، لكنها تمنع عمل مطالبات إقليمية جديدة -باستثناء روسيا والولايات المتحدة- اللتين لهما الحق في عمل مطالبات جديدة

المادة الخامسة: تمنع إجراء تفجيرات نووية أو ترك نفايات مشعة

أما باقي المواد فتتناول: التعاون العلمي وتبادل البيانات، مكان وحيز المعاهدة، المراقبة والتفتيش، السلطة القضائية، الاجتماعات الاستشارية، تعزيز مبادئ الاتفاقية، حل النزاعات، مراجعة المعاهدة والتعديلات والانسحاب، المصادقة والانضمام للمعاهدة والإيداعات، اللغات الرسمية والإجراءات الرسمية

لكن ماذا عن موارد القارة؟ ماذا عن الحفاظ على البيئة في القطب الجنوبي؟ هناك جوانب عدة لم تتناولها المعاهدة، لذا أتت اتفاقيات أخرى لتغطِ مالم تغطه المعاهدة، وهنا حان الوقت لنتحدث عن نظام معاهدة القطب الجنوبي

كيف يعمل نظام معاهدة القطب الجنوبي

معاهدة القطب الجنوبي هي حجر الأساس لنظام معاهدة القطب الجنوبي، والنظام مكون من عدة اتفاقيات تحكم القطب الجنوبي، أهمها معاهدة القطب الجنوبي ومعاهدات أخرى مكملة لها، مثل: بروتوكول حماية البيئة لمعاهدة القطب الجنوبي (يعرف ببروتوكول مدريد)، اتفاقية الحفاظ على الفقمة القطبية الجنوبية؛ لأنه كما أشرنا معاهدة القطب الجنوبي لم تغط الكثير من الجوانب لذا أتت بعدها اتفاقيات أخرى لتغطي ثغرات المعاهدة

نظام معاهدة القطب الجنوبي يقسم الدول الموقعة على معاهدة القطب الجنوبي أو الدول المنضمة لنظام معاهدة القطب الجنوبي إلى: أطراف استشارية: والتي لها حق التصويت وصنع القرار في أي شأن يخص القطب الجنوبي. وأطراف غير استشارية: والتي لا تمتلك حق التصويت لكن يمكن أن تحضر الاجتماعات فقط. تجتمع الأطراف الاستشارية كل عام لمناقشة القضايا المتعلقة بالقطب الجنوبي، ويعقد الاجتماع في دولة من الدول الاستشارية

أضف إلى هذا كله، أن هناك أطرافا غير استشارية في نظام معاهدة القطب الجنوبي، وهي المنظمات: لجنة حماية البيئة – اللجنة العلمية لأبحاث القطب الجنوبي – الرابطة الدولية لمنظمي الرحلات السياحية في أنتاركتيكا – مجلس مديري البرامج الوطنية في القطب الجنوبي – تحالف القطب الجنوبي والمحيط المتجمد الجنوبي. تقوم هذه المنظمات بتقديم معلومات ونصائح في جوانب مختلفة كالبيئة أو السياحة في القارة، أو أن تقوم بالتنسيق بين البرامج العلمية بين الدول مثلا. لكن من المهم الإشارة إلى أن دور المنظمات يصب في التأكد من أن أي نشاط يحدث في القطب الجنوبي يتماشى مع معاهدة القطب وقرارات الأطراف الاستشارية، فليس لهذه المنظمات أي سلطة في إتخاذ القرار فالقرار أولا وآخرا بيد الأطراف الاستشارية

وأخيرا.. لدينا أمانة معاهدة القطب الجنوبي والتي ما هي إلا منظمة لها مهام إدارية وتنسيقية فقط (يمكنك تصفح موقعهم الذي يحتوي على معلومات مفيدة تخص نظام معاهدة القطب)

قد تتساءل الآن: ما هي الدول الاستشارية؟ عدد الدول الاستشارية 29 بينما عدد الدول الغير استشارية 28 دولة، والدول ذات الوضعية الاستشارية: الولايات المتحدة – روسيا- الأرجنتين – تشيلي- بريطانيا – فرنسا- النرويج- أستراليا – نيوزيلندا- اليابان – بلجيكا – جنوب افريقيا – البرازيل- بلغاريا – الصين – تشيك – الإكوادور – ألمانيا – فنلندا – الهند – إيطاليا – كوريا الجنوبية – هولندا- بولندا – البيرو- اسبانيا – السويد – أوكرانيا – الأوروغواي

التقييم العام لمعاهدة القطب الجنوبي

يعد كثير من الباحثين اتفاقية القطب الجنوبي واحدة من الاتفاقيات الدولية الناجحة؛ لأنها ولأكثر من 60 عاما وبشكل عام حققت أهدافها في جعل القطب الجنوبي ساحة للتعاون الدولي على البحث العلمي، بعيدا عن التسليح والصراعات المسلحة، وأيضا حافظت على البيئة في القارة. لكن مع هذا النجاح فإن المعاهدة تحمل معها إشكاليات كثيرة لم تحل. ربما سأكتب عنها في تدوينة أخرى إن شاء الله

المصادر

Doaa Abdel-Motaal, Antarctica the battle for the seventh continent

Antarctica: what everyone needs to know, David Day

The Future of Antarctica, Scenarios from classical geopolitics, Jeffrey McGee, David Edmiston, Marcus Haward

The Antarctic Treaty.

Secretariat of the Antarctic Treaty website

https://www.ats.aq/index_e.html

Related Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *